| ]


إذا رَضِيَ المؤمن بالله تعالى ربًا، وتذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته ورضي عن الله تعالى في كل ما يفعله به ويقدره عليه، وجد في قلبه لذة لا تعادلها لذة، ألا وهي لذة الرضى بالله والأنس به والشوق إلى لقائه وحب هذا اللقاء، ومن أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ولقد كان النبي يسأل ربه لذة النظر إلى وجهه الكريم والشوق إلى لقائه، ولما خيره الله بين الدنيا وما فيها، وبين لقاء الله، اختار لقاء الله، وقال «اللهم الرفيق الأعلى»
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول «ذاق طعام الإيمان من رَضِيَ بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً» رواه مسلم
وعن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله «من قال حين يمسي رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبينًا، كان حقًا على الله أن يرضيه» رواه الترمذي وحسنه
هذه الأمور الثلاثة التي تضمنتها هذه الأحاديث وهي الرضا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، هي الأصول الثلاثة التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتابه «الأصول الثلاثة وأدلتها»، وهي الأمور التي يسأل عنها في القبر، فالإنسان يسأل في قبره عن دينه وربه ونبيه محمد
ورد في «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» «ذاق طعم الإيمان» أي حلاوة الإيمان ولذاته، «من رضي بالله ربًا»، قال صاحب التحرير معنى رضيت بالشيء قنعت به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع في غير طريق الإسلام ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد ، ولا شك أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه
وقال القاضي عياض معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه ؛ لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبه ؛ لأن من رضي أمرًا سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له
وقال ابن القيم فالرضى بإلهيته يتضمن الرضى بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه، وانجذاب قوى الإرداة والحب كلها إليه، فعل الراضي بمحبوبه كل الرضى وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له
والرضى بربوبيته يتضمن الرضى بتدبيره لعبده ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه وأن يكون راضيًا بكل ما يفعل به
فالأول يتضمن رضاه بما يؤمر به، والثاني يتضمن رضاه بما يقدر عليه
وأما الرضى بنبيه رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلا إليه ولا يحكم عليه غيره ولا يرضى بحكم غيره البتة
وأما الرضى بدينه فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضى ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليمًا ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها أو قول شيخه وطائفته «مدارج السالكين»
وقال في «الوابل الصيب» وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول

إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة 
وقال لي مرة ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة
وكان يقول في محبسه في القلعة لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا
وكان يقول في سجوده وهو محبوس «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله»
وقال لي مرة «المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه»
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها، نظر إليه وقال «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ»
وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها
وكان بعض العارفين يقول

لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف 
وقال آخر مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها ؟ قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا
وقال آخر إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب
فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات
قال الشيخ ابن عثيمين معلقًا على قول ابن تيمية «جنتي في صدري» ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى «لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى» الدخان يعني في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ومعلوم أن الجنة لا موت فيها لا أولى ولا ثانية، لكن لما كان نعيم القلب ممتدًا من الدنيا إلى دخوله الجنة، صارت كأن الدنيا والآخرة كلها جنة وليس فيها إلا موتة واحدة
قال الله تعالى «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً»، فهذا في الدنيا، ثم قال «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، فهذا في البرزخ والآخرة
وقال تعالى «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»
وقال تعالى «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ»، فهذا في الآخرة
وقال تعالى «قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، فهذه أربعة مواضيع ذكر الله تعالى فيها أنه يجزي المحسن بإحسانه جزاءين جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة
فالإحسان له جزاء معجل ولا بد، والإساءة لها جزاء معجل ولا بد، ولو لم يكن إلا ما يجازى به المحسن من انشراح صدره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه عز وجل وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته، وذكره وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه
وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتته وظلمته وغمه وهمه وحزنه وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حسن وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة، والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل وآخر داعونا أن الحمد لله رب العالمين



السابق التالي الرئيسية