الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده, أما بعد:
(( فمما ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان, على اختلاف درجاتها في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي.
فما الذي اخرج الأبوين من الجنة.. إلي دار الآلام والأحزان والمصائب؟!
وما الذي سلط الريح على قوم عاد؟!
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟!
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم, فجعل عاليها سافلها, فأهلكهم جميعاً, ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم, فجمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على غيرهم, ولإخوانهم أمثالهم, وما هي من الظالمين ببعيد ؟!
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر؟
ثم نقل أرواحهم إلي جهنم, فالأجسام للغرق, والأرواح للحرق.
روى الإمام أحمد عن جبير بن نفير قال:
لما فتحت قبرص, ففُرق بين أهلها, فبكى بعضهم إلى بعض, رأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي!
فقلت: يا أبا الدرداء.
ما يبكيك يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير. ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره, بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك , تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى....
(( وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة, والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله,
فمنها:
( حرمان العلم: فإن للعلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور)
ومنها
( وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله, لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلاً, ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة, وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة)
ومنها
( الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس, لا سيما أهل الخير منهم, فإنه يجد وحشة بينه وبينهم, وكلما قويت تلك الوحشة بَعُدَ منهم ومن مجالستهم, وحُرم بركة الانتفاع منهم )
ومنها
( تعسير أموره عليه, فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه )
ومنها
( أنها توهن القلب والبدن )
ومنها
( حرمان الطاعة )
ومنها
( أن المعاصي تزرع أمثالها, ويولد بعضها بعضاً, حتى يَعُز على العبد مفارقتها, حتى إن كان كثيراً من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها, إلا لما يجد من الألم في مفارقتها )
ومنها
( أن ينسلخ من القلب استقباحها, فتصير له عادة, فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له كلهم, ولا كلامهم فيه )
ومنها
( أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه )
ومنها
( أن المعاصي تفسد العقل, فإن العقل نوراً, والمعصية تطفئ نور العقل ولابد, وإذا طفئ نوره ضعف ولابد... فلا تجد عاقلَين أحدهما مطيع والآخر عاص, إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل وفكره أصح, ورأيه أَسَدُّ, والصواب قرينه )
ومنها
( أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن )
ومنها
( أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه )
ومنها
( أن العاصي دائماً في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه )
ومنها
( أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه... فيخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار.... فربما تعذر عليه النطق بالشهادة )
** المرجع: ] الداء والدواء [ لابن القيم.